النسق القيمي ورعايته في الإسلام

د. محمد غاني ، باحث مشارك بمركز جاك بيرك للعلوم الإجتماعية والإنسانية ــ الرباط.10518874_1482763598632775_288951985_n

إذا كان الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه لخص رسالته العظيمة في أنها إنما جاءت متممة لرسالات سابقيه من الأنبياء في بناء القيم، معبراً عن حكمته الخالدة بقوله:”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “1  ” ـ بمعنى أن غيره سبق أن بنى، وهو إنما أتى لإتمام عملية التشييد  ـ ، فإن أول ما يتبادر إلى ذهن المتأمل أن الشرائع والقوانين الدينية لم تأت يوماً من أجل التشبث بها لذاتها، كما يتخيله العديد من المسلمين اليوم، وإنما أتت لتحقيق مقصد أوحد يتخفى من ورائها  هو غرس شجرة القيم في الأرض على أساس من التوحيد.

إذا كان الأمر كما قلنا، فإنه قد يحق لنا التساؤل عن منهج الإسلام في غرس هذه القيم في قلب أوراق شجرة البشرية؟، ومراعاتها لكي تنمو وتترعرع بين أحضان المجتمعات فتتوسع لتخترق القلوب اختراقاً فيصلح أمر الأمة كما كان عليه أمر السلف الصالح حتى خلد في الصالحات عهد عمر بن الخطاب، كخير عهد طُبِّقَ فيه التصور الإسلامي لمفهوم العدل على أرض الواقع، كما سجل التاريخ أيضاً عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، وهو أيضاً في نفس مستوى هذا التنزيل لمفهوم العدل في الأرض، حتى أن التاريخ يروي لنا على أن العامل على الزكاة كان يبحث في الفقراء من المسلمين عمن يقبل منه تناول أموال الزكوات فلا يجد من بينهم أحداً.

إن عملية بناء منظومة القيم في الإسلام تمت في نظرنا على ثلاث مستويات:
ـ مستوى ميكانيزمي.
ـ مستوى شرائعي.
ـ مستوى الفقه الجمعي.

نقصد بالمستوى الأول: ذلك النظام الفطري المبثوث في الإنسان عموماً أينما كان يبين له الخير خيراً، ويظهر له الشرُ شراً، ويخلق فيه الرغبة في البحث عن المقدس ويحيي فيه الضمير، وهو ما عبر عنه الحديث الشريف:”ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء”، ثم يقول أبو هريرة:” واقرءوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله “2”.

وهو المقصود أيضاً في نظرنا من الآية الكريمة: “وعلم آدم الأسماء كلها”3″، حيث إذا رجعنا إلى كتب التفسير ستحيلنا المصادر إلى أن المقصود من مصطلح الأسماء في الآية الكريمة أسماء الأشياء “كالحمامة والغراب، والسماء، والأرض، والصحفة، والقدر”، إلا أننا نرى أنه إذا رجعنا لسياق الآية الكريمة حتى نفهم المراد سنجد أن السياق كان هو الجواب على إنكار الملائكة على الحق سبحانه خلق آدم الذي سيفسد في الأرض، و هو سياق أخلاقي بالدرجة الأولى، مما ساقنا إلى استنتاج نجده في غاية الأهمية، وهو أن الله سبحانه وتعالى لكي يبرهن على أفضلية آدم على الملائكة علمه أسماء الأشياء كلها وحاشاه عز وجل أن ينسى أسماء الأشياء المعنوية، فإن كان علمه أسماء الأشياء الحسية كالسماء، الأرض، والحمامة، والغراب، وغيرها، فقد علمه أيضا نسق القيم الأخلاقية من كرم، وعدل، وإيثار، وحلم وأناة، وغيرها.

ومن أجل العناية بهذا الغرس الميكانيزمي للقيم في جوف العقل الباطن للإنسان فإن الإسلام جاء بفلسفة شرعية من أجل رعاية هذا الغرس رعاية دائمة وحرص على صيانتها وتتبعها إلى أن تثمر النتائج المتوخاة في سائر الأفراد المنضوين اختياراً وإقتناعاً داخل هذه المنظومة.

وأول ما لفت انتباهنا خلال البحث داخل النسق الشرائعى عما ينمي هذه المنظومة القيمية بشكل سريع هو فلسفة الجزاء في الإسلام حيث وجدناها تنبني على محفزات على الطاعة، وكذا على روادع عن المعاصي، ولا نظن أن هناك نظاماً سبق الإسلام في خلق نسق من الروابط، والقوانين المنتجة للقيم كما هو عليه الحال في الإسلام.

يمكن أن نسمي هذا النسق بالتسويق الشبكي للقيم ونجد في مقابله التسويق الشبكي للروادع عن الرذائل،
والقاعدة الأساس في هذا السياق نجدها مبثوثة في الحديث النبوي بالغ الحكمة الذي يقول فيه سيد الحكماء محمد صلوات الله و سلامه عليه:” من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها
من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”4″.

وهكذا فهذا النظام الشبكي الذي يفتح في الإسلام الباب على مصراعيه من أجل التسابق في الخيرات والتنافس على البدء في الخطو الحثيث في طريق البناء القيمي يجعل من الأمة الإسلامية، إن فهمت العمق والمغزى من هذا الحديث الأولى في ركب الأمم والحضارات، وذلك لسبب بسيط هو أن النظام الشبكي يسري بسرعة البرق في نشر المراد، وللأسف نجد بعض الشركات في الأسواق التي تنعدم فيها القيم الأخلاقية ولا يسود في قانونها سوى قانون الربح قد انتبهت لهذا القانون العظيم وسخرته في النصب والإحتيال على الفقراء من الناس مستغلة حاجتهم وفاقتهم من أجل كسب المزيد من الأموال.

يحيلنا المستوى الثالث الذي يعتمده الإسلام في بناء منظومته القيمية ورعايتها وتتبعها الدائم والمستمر على ذلك الفقه الجمعي للأمة الذي يمثله علماؤها وصلحاؤها، حيث أن هذه الفئة هي التي اصطفاها المجتمع الإسلامي اصطفاء من خلال معاهد العلم المختلفة ومؤسسات التربية الدينية والروحية المتنوعة وتقديمها لإجازات تثبت أهليتهم وكفاءتهم، هؤلاء هم مَن يصبحون نواباً عن الأمة في الذب عنها كل دخيل من الأفكار وزرع كل حميد من الخواطر التي يمكن أن تتحول إلى مشاريع بانية مستقبلاً.

ختاماً يمكن القول أن فلسفة الإسلام في بناء القيم مبنية على حكمة بليغة وبعد نظر وبيداًغوجية ممنهجة لا يكفي مقال مختصر في شرح مضامينه، لكن الباب مفتوح دوماً لكل نبيه من أجل البحث النهم والإستفادة من خزائنه في جميع مناحي الحياة، ومن خلال بناء القيم يمكن أن نبني الإنسان الذي يعد في نظرنا محور البناء الحضاري، فلا حضارة بدون إنسانية الإنسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“1”: أخرجه مالك في الموطأ، وأخرجه الإمام أحمد بلفظ “إنما بعثت لاتمم صالح الأخلاق”.
“2”: صحيح مسلم الحديث 2658.
“3”: سورة البقرة الآية 31.
“4”: أخرجه مسلم والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، والدارمي.

 

شاهد أيضاً

إتحاد كشاف لبنان يطلق بعثته إلى المخيم الكشفي العربي 33

المصدر: الصفحة الرسمية لإتحاد كشاف لُبنان. إستضاف المقر العام لإتحاد كشاف لبنان في بيروت، حفل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *