تمرُ في شوارع بيروت المنكوبة لتعرف مدى الكارثة والفاجعة الّتي ألمت بالشعب اللُبناني جراء التفجير الّذي وقع عشية يوم الثلاثاء الرابع من آب أغسطس 2020، في مرفأ بيروت. أيامٌ مرت ولازال الشعب المنكوب يحاول استيعاب ما جرى.
ثلاثون ثانية حولت أحياء عدة من بيروت إلى ركام. تفجيرٌ كبيرٌ استهدف مرفأ بيروت، فتحول المشهد على الشكل التالي: آلاف الجرحى المدرجين بالدماء في الطرقات والمباني، أصوات الصراخ وعويل وبكاء المفجوعين، مئات الشهداء في الطرقات والمباني، مفوقودون داخل المرفأ وفي محيطه وأهالٍ يبحثون عن ذويهم، العديد من سكان بيروت تهدمت بيوتهم وشركاتهم وباتوا بلا مأوى وعمل، أمهاتٌ وإخوات مفجوعات، أطفال صغار يصرخون خوفاً، رائحة الموت تلف بيروت، والعديد من حالات الهلع والخوف بين المواطنين جراء شعورهم بالأرض تتزلزل تحتهم وعصف التفجير والصوت الكبير الّذي سمع في أرجاء لبنان، بل تخطاهُ بوصول صوت التفجير لجزيرة قبرص المقابلة للبنان، كما سجل مرصد الزلازل الأردني (حكومي) يوم الثلاثاء، “الإنفجار الذي وقع في مرفأ بيروت بطاقة زلزالية تعادل 4.5 درجات على مقياس ريختر”.
الناس تسأل بعضها “ماذا حدث؟!”، وما هي إلا لحظات حتى تأتي الأنباء المتضاربة إنفجار ألعاب نارية في مرفأ بيروت!، ثُمّ تتكشف الأمور بحسب الرواية الرسيمة: “إندلاع حريق ــ لا يزال مجهول الملابسات حتى الآن ــ وصل إلى العنبر 12 في مرفأ بيروت المجزن فيهِ 2750 طن من مادة “نيترات الأمونيوم” فانفجر المرفأ ودمر بيروت معهُ. ولكن رواية بعض شهود العيان سماع هدير طائراتٍ حربية إسرائيلية معادية قبل وقوع التفجير بثوانٍ.
كل هذا يأتي في ظلِّ تكتمٍ كبير حول ما جرى، إذْ تحدث كل هذهِ الأمور وسط عدم ثقة شعبٍ صنع ثورةً في السابع عشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2019 بوجهِ سلطةٍ فاسدةٍ، صنع سلفها حرباً أهليةً بدأت شرارتها في العام 1975 وانتهت في العام 1990، ثُمَّ ركب زعماء الحرب السلطة واحتلوا المجلس النيابي ضمن الأطر القانونية، وتشريعهم قوانين ومراسيم فصلوها على قياسهم خدمة لهم ولمصالهم وأحزابهم والموالين لهم، وليس خدمةً لشعبٍ خرج من الحرب ويسعى للملمةِ جراحِهِ، فبنوا البلد من جيوب الناس الفقراء وسعوا لتجويعهِ وإنهاكهِ بالضرائب، حتّى استيقظ الشعب ذات يومٍ ليجد لبنان وطناً مفلساً نهبت أمواله وتحولت إلى الخارج بحسابات سرية للسياسيين، وتبخرت أموال وودائع المواطنين الّتي كانت في المصارف.
أمَّا الحكومة الخلف الّتي أتت بعد ثورة 17 تشرين ــ وسط انقسام الشارع بين معارضٍ وموالٍ لها ــ، وبعدَ أكثر من 5 أشهر أثبتت فشلها بالعديد من الأمور الأساسية الّتي يحتاجها المواطن الفقير وهذا بعضٌ منها:
• فشلت السلطة بإقرار قانون محاسبة السلطة السالفة واستعادة الأموال المنهوبة ومحاربة الفساد لأنَّ نواب السلطة السابقة لازالوا في الحكم.
• فشلت السلطة بالحد من التلاعب بسعر صرف الدولار الذي وصل لعشرة آلاف ليرة مقابل الدولار الواحد في السوق السوداء ذات يوم.
• فشلت السلطة بتثبيت سعر السلع الّتي ترتفع أسعارها يوماً بعدَ يوم.
• فشلت السلطة بتأمين المحروقات والطحين والغذاء للمواطنين.
• فشلت السلطة بضبط الحدود مع سوريا الّتي كانت تهرب من خلالها السلع المدعومة من الدولة اللبنانية إلى سوريا وبيعها بالسوق السوداء هناك.
• فشلت السلطة بتأمين الكهرباء للمواطنين فغرق لبنان لأكثر من شهر بالظلمة بسبب عدم توفر مادة المازوت لتوليد الكهرباء.
• فشلت السلطة بفتح الإعتمادات لشراء المواد الأولية والإستشفائية للمواطن الفقير.
• فشلت السلطة بتأمين الدولار للطلاب المقيمين خارج لبنان، وللعاملات الأجنبيات في المنازل، وللشركات، فترك الطلاب المغتربين جامعاتهم، وسحبت بعض السفارات الأجنية عدداً من رعاياها العاملين في لبنان، وتكدست النفايات في الشوارع لأيام لعجز الجهات المعنية دفع الأموال بالعملة الصعبة للشركات الموكل لها رفع النفايات.
• فشلت السلطة بإدارة البلاد لمواجهة جائحة كورونا الّتي ضربت لُبنان بشهر آذار/ مارس 2020.
• كما وفشلت بفرض سلطتها فبات لبنان مرتع للصوص وتجار المخدرات وكذالكَ العملاء الإسرائيليين الفارين أمثال العميل عامر الفاخوري الّذي هُرّب على مرأى ومسمع من السلطة والشعب عبرَ طائرة أمريكية عسكرية إلى خارج لبنان، وزدّ عليها الخرقات الإسرائيلية المتكررة كلَّ يوم في البحر والجو والبر دون وجود حسيب أو رقيب أو رادع.
إنتهت اصابعي العشر التي أعدُ عليها فشل السلطة، ولكن لا يزال هناك العديد من الأمور، وآخرها الفشل بالشعور بالأمان، فأضحى المواطن منذُ عدة اشهر لا يشعر بالأمان وعدم الثقة بجميع السياسين، ويطالبونهم بالإستقالة، إلا بعض الأصوات المأجورة الّتي تهلل لهذا أو لذاك، كما أنَّ المجتمع الدولي بات لا يثق بالمسؤولين اللُبنانيين وكان هذا جلياً خلال زيارة الرئيس الفرنسي “أيمانويل ماكرون” الّذي قدمَ في الأمس داعماً للبنان ولشعبهِ، ولكن خلال زيارتهِ تجمع عددٌ من المواطنين أمام بيت الصنوبر في بيروت وطلبوا منهُ:
أولاً: وضع حزب الله على قائمة الإرهاب وتحميله مسؤولية التفجير الّذي وقع في المرفأ، إذ تقول بعض التحاليل والروايات أن للحزب مخزن للأسلحة في المرفأ قدّ إنفجر بالغارة الجوية الّتي يتحدث عنها شهود العيان.
ثانياً: عدم إعطاء المساعدات الّتي سيقدمها للشعب اللُبناني للسلطة لأنها ستنهب كسابقاتها من الأموال كأموال مؤتمر باريس 1، وباريس 2، وآخرها مؤتمر سيدير.
ثالثاً: الطلب من الرئيس الفرنسي إعادة الإنتداب إلى لُبنان ليكون تحت سلطة فرنسا كما كان بين عامي 1920 و1943 بعدَ فوز فرنسا وحلفائها بالحرب العالمية الأولى وأفول شمس الأمبراطورية العثمانية.
وهنا مربط فرس مقالي، فالشعب اللُبناني أثبت أنّهُ لا يتعلم من أغلاطهِ وتجاربه منذُ الولاية العثمانية وحتى يومنا هذا، وإنّ رجعنا للتاريخ قليلاً فعندما كانت البلاد تحت وصاية الولاية العثمانية إنقسم الشعب بين مَن يعمل تحت رايتها ويتظلل بعبائتها ويزال يراها حتى الآن أنها الإمبراطورية الإسلامية الّتي كان لُبنان ولاية من ولاياتها، ومنهم من كانَ يُقاوم وجودها ويسعى للخلاص من الولاية الإقطاعية الّتي تجند الأبرياء بالتجنيد الإجباري “السفر برلك” للدفاع عن الولاية العثمانية الّتي كانت تتناحر مع دولٍ أخرى لتثبت وجودها في الشرق، فعلّقوا على المشانق في ساحة البرج ــ “ساحة الشهداء”، وبعدَ إنتداب فرنسا كانَ مَنْ يعمل خادماً للإنتداب ومَنْ يُقاوم ويسعى لاستقلال لُبنان من الحكم الأجنبي ومنهم من سجن ومنهم مَنْ استشهد.
وبعدَ حصول لُبنان على الإستقلال في العام 1943 ظهرت التحالفات العربية وكانَ دائماً هناك مَنْ هو موالٍ ومعارض، وبعدَ احتلال فلسطين في العام 1948 من قبل العصابات الصهيونية ونزوح اللاجئين الفلسطينيين إلى لُبنان وجدَ مَن هو داعم للدولة الصهيونية في لُبنان ومَن هو مُقاوم، وعندَ إقامة الدويلة الفلسطينية في لُبنان بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الّتي كانت تُنظم العمليات العسكرية ضدّ الكيان الغاصب من بيروت إنقسم الشعبُ أيضاً بين مؤيدٍ وداعمٍ وبينَ مناهضٍ ومروج لفكرة إدخال قوات صهيونية إلى لُبنان والعاصمة بيروت ــ لتدمرَ دويلة المخرب الفلسطيني ــ كما كانَ يصفونها المناهضين والصهاينة. حتّى ما انفك الجيش الإسرائيلي الغاصب يتسوق وتيجول في شوارع العاصمة بيروت في العام 1982 ويجتاح لبنان وينكل بالمواطنين، إلى أن ظهر هنا إنقسام الشعب اللُبناني بينَ مؤيدٍ لوجود الإحتلال وكان يتعامل معهم وبعضهم وصل إلى سدة الرأسة بدعمٍ منهُ، في وقت كانَت حركات مقاومة للوجود الغاصب تقاوم وتقدم الغالي والنفيث لتحرير بيروت، والبعض استعان بقراراتٍ دولية لدخول قوات عربية بحجة الدفاع عن بيروت ولبنان فدخل الجيش السوري الّذي ألتف الكثير حولهُ وكانوا خداماً لجزم ضباطهِ، واضعين لبنان تحت وصايتهِ حتّى العام 2005 حتّى علا الصوت واستُعين بالغرب لإخراجهِ ونعتهِ بالمحتل فصدرعن مجلس الأمن الدولي القرارٍ رقم 1559 ، المتزامن مع ثورة عرفة باسم “ثورة الأرز” قام بها الأحزاب اللُبنانية أنذاك وسماها البعض باسم “الإستقلال الثاني”، بعد اغتيال رئيس مجلس الوزراء رفيق الحريري بالرابع عشر من شباط / مارس من العام 2005 وتحول بعض حلفاء النظام السوري إلى معرضين لهُ.
ومنذُ هذا التاريخ لا تزال تلكَ السلطة مستلمة البلاد، ومن الإنفصام السياسي هؤلاء الزعماء هم زعماء الأحزاب الّذين تسببوا بالحرب الأهلية وهم تسلموا زمام الأمور بعدَ مؤتمر الطائف الّذي جمع بينَ المتخاصمين والمتحاربين، وهم عينهم المتحالفين مع جميع الأوصياء على البلاد من العام 1975 إلى العام 2005، وصنعوا ثورةً على القوات السورية الّتي كانوا يعملون معها وتسلموا البلاد حتى أوصلوها إلى الدمار: “إفلاس البلاد، جوع المواطن، بطالة مرتفعة بين النخب الشبابية وأصحاب الخبرات، توظيف الحزبين، وما زاد الطين بلة تهجير العائلات من البيوت بسبب التفجير الأخير”، والمصيبة أنَّهم لا يعترفون بأنهم مخطئين، وهذا ما دفع بالشعب لطلب الإنتداب من جديد ليتخلص من طبقةٍ سياسة فاسدة.
وهنا يكمنُ السؤال، متى سينتهي الشعب اللُبناني من الإستعانة بالغرباء ليستطيع التخلص من ظلم حكامه؟!
متى سينتهى الشعب اللُبناني من الإنقسام الحاصل وتأليه الزعماء والعنصرية القائمة؟!
متى ستتغير نظرة الشعب اللُبناني للغرب “الفرنجي … برنجي”!
عندما يتخلص الشعب اللُبناني من هذهِ الآفات وغيرها عندها سيحصل الشعب حقاً على إستقلالهُ، وحينئذن يقرر مصيره ومصير وطنه ليصبح نظاماً مدنياً أو علمانياً نصبح شعباً واحداً متساوياً بالحقوق والواجبات ليس شعباً مسلوب الحقوق ومفروضٌ عليه تقديم الواجبات.